فصل: يوم السبت سابع جمادى الآخرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم خرج الجاليش في بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر وفيه من أكابر الأمراء مقدمي الألوف‏:‏ الأتابك بيبرس والأمير نوروز الحافظي رأس نوبة الأمراء والأمير بكتمر الركني أمير سلاح وآقباي حاجب الحجاب ويلبغا الناصري وإينال باي بن قجماس وعدة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات‏.‏

ثم رحل السلطان ببقية الأمراء والعساكر من الريدانية يريد جهة الشام لقتال تيمورلنك وسار حتى نزل بغزة في يوم عشرين من الشهر واستدعى بالوالد وآقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب كان من القدس وأخلع على الوالد باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور وهذه ولاية الوالد على دمشق الأولى‏.‏

وخلع على الأمير آقبغا الجمالي الأطروش باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن شيخ المحمودي بحكم أسره مع تيمور أيضًا وعلى الأمير تمربغا المنجكي استقراره في نيابة صفد عوضًا عن ألطنبغا العثماني بحكم أسره وعلى طولو من علي باشاه باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن عمر بن الطحان وعلى صدقة بن طويل باستقراره في نيابة القدس وبعث الجميع إلى ممالكهم‏.‏

وأما الوالد فإنه قال للسلطان وللأمراء‏:‏ عندي رأي أقوله وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان فقيل له‏:‏ وما هو‏!‏ فقال‏:‏ الرأي أن السلطان لا يتحرك هو ولا عساكره من مدينة غزة وأنا أتوجه إلى دمشق وأحرض أهلها على القتال وأحصنها - وهي بلدة عظيمة لم تنكب من قديم الزمان وبها ما يكفي أهلها من المؤونة سنين وقد داخل أهلها أيضًا من الخوف ما لا مزيد عليه فهم يقاتلون قتال الموت وتيمور لا يقدر على أخذها مني بسرعة وهو في عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق المكث بهم بمكان واحد مدة طويلة فإما أنه يدع دمشق ويتوجه نحو السلطان إلى غزة فيتوغل في البلاد ويصير بين عسكرين وأظنه لا يفعل ذلك وإما أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره بالبلاد الشامية وقلة ما في طريقه من الميرة لخراب البلاد فيركب السلطان بعساكره المصرية والشامية أفقية التمرية إلى الفرات فيظفر منهم بالغرض وزيادة فاستصوب ذلك جميع الناس - حتى تيمور عندما بلغه ذلك بعد أخذه دمشق - وما بقي إلا أن يرسم بذلك تكلم بعض جهال الأمراء مع بعض في السر ممن عنده كمين من الوالد من واقعة أيتمش وتنم وقال‏:‏ أتقتلون رفقته وتسلمونه الشام‏!‏ والله ما قصده إلا أن يتوجه إلى دمشق ويتفق مع تيمور ويعود يقاتلنا حتى يأخذ منا ثأر رفقته‏.‏

وكان نوروز الحافظي بإزاء الوالد فلما سمع ذلك استحيا أن يبديه للوالد فأشار إليه بالسكات والكف عن ذلك‏.‏

وانفض المجلس وخرج الوالد من الخدمة وأصلح شأنه وتوجه إلى دمشق فوجد الأمير دمرداش نائب حلب قد هرب من تيمور وقدم إلى دمشق وقد جفل أهل دمشق لما بلغهم قرب تيمور إلى دمشق فأخذ الوالد في إصلاح أهل دمشق فوجد أهلها في غاية الاستعداد وعزمهم قتال تيمور إلى أن يفنوا جميعًا فتأسف عند ذلك على عدم قبول السلطان لرأيه ولم يسعه إلا السكات‏.‏

ثم رحل جاليش السلطان من غزة في رابع عشرين شهر ربيع الآخر ثم رحل السلطان ببقية عسكره من غزة في سادس عشرينه وسار الجميع حتى وافوا دمشق‏.‏

وكان دخول السلطان دمشق في يوم الخميس سادس جمادى الأولى وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال إلى الله بنصرته‏.‏

وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه فنزل من قلعة دمشق وخرج بعساكره إلى مخيمه عند قبة يلبغا ظاهر دمشق وتهيأ للقاء تيمور هو بعساكره وقد قصرت المماليك الظاهرية أرماحهم حتى يتمكنوا من طعن التمرية أولًا بأول لازدرائهم عساكر تيمور‏.‏

فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش تيمور من جهة جبل الثلج في نحو الألف فارس فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة بددوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا‏.‏

ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمرية وأخبروا بنزول تيمور على البقاع العزيزي ‏"‏ فلتكونوا على حذر فإن تيمور كثير الحيل والمكر ‏"‏ فاحترز القوم منه غاية الاحتراز‏.‏

ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز وأولاد شهري آتفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمرية وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس وأن تيمور بعث عسكرًا إلى طرابلس فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نية المسير إلى طاعة السلطان - وكان ذلك من مكايد تيمور - ثم قال‏:‏ وإن صاحب قبرص وصاحب الماغوصة وغيرهم وردت كتبهم بآنتظار الإذن لهم في تجهيز المراكب في البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة‏.‏

ثم في يوم السبت نزل تيمور بعساكره على قطنا فملأت عساكره الأرض كثرة وركب طائفة منهم لكشف الخبر فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيأوا للقتال‏.‏

وصفت العساكر السلطانية فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة وثبت كل من العسكرين ساعة فكانت بينهم وقعة آنكسر فيها ميسرة السلطان وآنهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران وجرح جماعة‏.‏

وحمل تيمور بنفسه حملة عظيمة شديدة ليأخذ فيها دمشق فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه‏.‏

ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه وأنه هو أيضًا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في وقعة حلب فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركي في قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم لا لضعف عسكرهم فلم يقبلوا وأبوا إلا القتال‏.‏

ثم أرسل تيمور رسولًا آخر في طلب الصلح وكرر القول ثانيًا وظهر للأمراء ولجميع العساكر صحة مقالته وأن ذلك على حقيقته فأبى الأمراء ذلك هذا والقتال مستمر بين الفريقين في كل فلما كان ثاني عشر جمادى الآخرة آختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانية جماعة منهم الأمير سودون الطيار وقاني باي العلائي رأس نوبة وجمق ومن الخاصكية يشبك العثماني وقمش الحافظي وبرسبغا الدوادار وطرباي في جماعة أخر فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن في الوظائف والإقطاعات والتحكم في الدولة وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن وأخذوا في الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم‏.‏

هذا وتيمور في غاية الاجتهاد في أخذ دمشق وفي عمل الحيلة في ذلك‏.‏

ثم أعلم بما الأمراء فيه فقوي أمره واجتهاده بعد أن كان عزم على الرحيل واستعد لذلك‏.‏

ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجهوا جميعًا إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاجين الجركسي أحد الأجناد البرانية فعظم ذلك على مدبري المملكة لعدم رأيهم وكان ذلك عندهم أهم من أمر تيمور واتفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة وعوده إلى الديار المصرية في الليل ولم يعلموا بذلك إلا جماعة يسيرة ولم يكن أمر لاجين يستحق ذلك بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفي السلطان أمرهم ‏"‏ ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ‏"‏ فلما كان آخر ليلة الجمعة حادي عشرين جمادى الأولى ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة عمر يريدون الديار المصرية وتركوا العساكر والرعية من المسلمين غنمًا بلا راع وجدوا في السير ليلًا ونهارًا حتى وصلوا إلى مدينة صفد فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر - عليهم من الله ما يستحقوه - بمدينة غزة فكلموهم فيما فعلوه فاعتذروا بعذر غير مقبول في الدنيا والآخرة فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها‏.‏

وأما بقية أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لما علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا في الحال في إثره طوائف طوائف يريدون اللحاق بالسلطان فأخذ غالبهم العشير وسلبوهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا‏.‏

أخبرني غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا‏:‏ لما بلغنا خروج السلطان ركبنا في الحال غير أننا لم يعوقنا عن اللحاق به إلا كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق مما رمتها المماليك السلطانية ليخص ذلك عن خيولهم فمن كان فرسه ناهضًا خرج وإلا لحقه أصحاب تيمور وأسروه فمن أسروه قاضي القضاة صدر الدين المناوي ومات في الأسر حسبما يأتي ذكره في الوفيات‏.‏

وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانية وغيرهم إلى القاهرة في أسوأ حال من المشي والعري والجوع فرسم السلطان لكل من المماليك السلطانية ألف درهم وجامكية شهرين‏.‏

وأما الأمراء فإنهم أيضًا دخلوا إلى مصر وليس مع كل أمير سوى مملوك أو مملوكين وقد تركوا أموالهم وخيولهم وأطلابهم وسائر ما معهم بدمشق فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لما بلغهم توجه السلطان من دمشق وأخذ كل واحد ينجو بنفسه‏.‏

وأما العساكر الذين خلفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها فإنه كان آجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلًا من تيمور‏.‏

ولما أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلقوا أبواب دمشق وركبوا أسوار البلد ونادوا بالجهاد فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمور بعساكره فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال وردوهم عن السور والخندق وأسروا منهم جماعة ممن كان آقتحم باب دمشق وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة وقتلوا منهم نحو الألف وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة وصار أمرهم في زيادة فأعيا تيمور أمرهم وعلم أن الأمر يطول عليه وبينما أهل دمشق في أشد ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا من بعد‏:‏ الأمير يريد الصلح فابعثوا رجلًا عاقلًا حتى يحدثه الأمير في ذلك‏.‏

قلت‏:‏ هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزة في نيابة دمشق وقوله‏:‏ إن أهل دمشق عندهم قوة لدفع تيمور عن دمشق وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرزق وهي في الغاية من التحصين وأنه يتوجه إليها ويقاتل بها تيمور فلم يسمع له أحد في ذلك فلعمري لو رأى من لا أعجبه كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدة بأسهم وهم بغير نائب ولا مدبر لأمرهم فكيف ذاك لو كان عندهم متولي أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير‏.‏

انتهى‏.‏

ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور في الصلح وقع آختيارهم في إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي فأرخي من سور دمشق إلى الأرض وتوجه إلى تيمور وآجتمع به وعاد إلى دمشق وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه وتلطف معه في القول وترفق له في الكلام وقال له‏:‏ هذه بلدة الأنبياء والصحابة وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عني وعن أولادي ولولا حنقي من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها وقد صار سودون المذكور في قبضتي وفي أسري وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا ولم يبق لي الآن غرض إلا العود ولكن لا بد من أخذ عادتي من التقدمة من الطقزات‏.‏

وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحًا يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدواب والملابس والتحف تسعة يسمون ذلك طقزات والطقز باللغة التركية‏:‏ تسعة وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا‏.‏

فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذل الناس عن القتال ويثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيمًا ويكف أهل دمشق عن قتاله فمال معه طائفة من الناس وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلا قتاله وباتوا ليلة السبت على ذلك وأصبحوا نهار السبت وقد غلب رأي ابن مفلح على من خالفه وعزم على إتمام الصلح ونادى في الناس‏:‏ إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه فكف الناس عن القتال‏.‏

وفي الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق في طلب الطقزات المذكورة فبادر ابن مفلح وآستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار حمل ذلك كل أحد بحسب حاله فشرعوا في ذلك حتى كمل وساروا به إلى باب النصر ليخرجوا به إلى تيمور فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك وهددهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك فلم يلتفتوا إلى قوله وقالوا له‏:‏ ‏"‏ أنت احكم على قلعتك ونحن نحكم على بلدنا ‏"‏ وتركوا باب النصر وتوجهوا وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور وتدلى ابن مفلح من السور أيضًا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيم تيمور وباتوا به ليلة الأحد وعادوا بكرة الأحد وقد استقر تيمور بجماعة منهم في عدة وظائف ما بين قضاة القضاة والوزير ومستخرج الأموال ونحو ذلك معهم فرمان من تيمور لهم وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصة فقرىء الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط وقدم أميرمن أمراء تيمور جلس فيه ليحفظ البلد ممن يعبر إليها من عساكر تيمور فمشى ذلك على الشاميين وفرحوا به وأكثر ابن مفلح ومن كان توجه معه من أعيان دمشق الثناء على تيمور وبث محاسنه وفضائله ودعا العامة لطاعته وموالاته وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر لتيمور عليهم وهو ألف ألف دينار وفرض ذلك على الناس كلهم فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم‏.‏

فلما كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه فلما عاينه غضب غضبًا شديدًا ولم يرض به وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه فأخرجوا من وجهه ووكل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان - والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب إلا أن سعر الذهب عندهم يختلف وعلى كل حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار - فالتزموا بها وعادوا إلى البلد وفرضوها ثانيًا على الناس كلها عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى حر وعبد بعشرة دراهم وألزم مباشر كل وقف بحمل مال له جرم فنزل بالناس بآستخراج هذا منهم ثانيًا بلاء عظيم وعوقب كثير منهم بالضرب فغلت الأسعار وعز وجود الأقوات وبلغ المد القمح - وهو أربعة أقداح - إلى أربعين درهمًا فضة وتعطلت صلاة الجمعة من دمشق فلم تقم بها جمعة إلا مرتين حتى دعي بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولي عهده ابن الأمير تيمورلنك وكان السلطان محمود مع تيمور آلة كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلا من يكون من ذرية الملوك‏.‏

انتهى‏.‏

ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور‏.‏

ثم بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق كل ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق وأعوان تيمور تحاصره أشد حصار حتى سلمها بعد تسعة وعشرين يومًا وقد رمي عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر‏.‏

يكفيك أن التمرية من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة رمى أهل قلعة دمشق نفطًا فأحرقوها عن آخرها فأنشأوا قلعة ثانية أعظم من الأولى وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة‏.‏

هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلا نفر قليل دون الأربعين نفرًا وطال عليهم الأمر قلت‏:‏ لا شلت يدهم‏!‏ هؤلاء هم الرجال الشجعان‏.‏

رحمهم الله تعالى‏.‏

ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه‏:‏ ‏"‏ هذا المال بحسابنا إنما هو ثلاثة آلاف ألف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار وظهر لي أنكم عجزتم ‏"‏‏.‏

وكان تيمور لما اتفق أولًا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور فخرج إليه آبن مفلح بأموال أهل مصر جميعها فلما صارت كلها إليه وعلم أنه آستولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من دمشق فسارعوا أيضًا إلى حمل ذلك كله وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح جليلها وحقيرها فتتبعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شيء فلما فرغ ذلك كله قبض على ابن مفلح ورفقته وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها فكتبوا فلك ودفعوه إليه ففرقه على أمرائه وقسم البلد بينهم فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ونزل كل أمير في قسمه وطلب من فيه وطالبهم بالأموال فحينئذ حل بأهل دمشق من البلاء مالا يوصف وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار والتعليق منكوسًا وغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم كلما تنفس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تزهق فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلى عنه حتى يستريح ثم تعاد عليه العقوبة أنواعًا فكان المعاقب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على الموت ويقول‏:‏ ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه ومع هذا تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير فيشاهد الرجل المعذب امرأته أو بنته وهي توطأ وولده وهو يلاط به فيصرخ هو من ألم العذاب والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللواط وكل ذلك من غير تستر في النهار بحضرة الملأ من الناس‏.‏

ورأى أهل دمشق أنواعًا من العذاب لم يسمع بمثلها منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشد رأسه بحبل ويلوونه حتى يغوص في رأسه ومنهم من كان يضع الحبل بكتفي الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان ومنهم من كان يربط إبهام يدي المعذب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويفر في منخريه الرماد مسحوقًا فيقر على ما عنده شيئًا بعد شيء حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدقه صاحبه على ذلك فلا يزال يكرر عليه العذاب حتى يموت ويعاقب ميتًا مخافة أن يتماوت‏.‏

ومنهم من كان يعلق المعذب بإبهام يديه في سقف الدار ويشعل النار تحته ويطول تعليقه فربما يسقط فيها فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق ثم يعلقه ثانيًا‏.‏

وآستمر هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يومًا آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى‏.‏

فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شيء خرجوا إلى تيمور فسألهم‏:‏ هل بقي لكم تعلق في دمشق فقالوا‏:‏ لا فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق أتباع الأمراء فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الحور وغيرها وسبوا نساء دمشق بأجمعهن وساقوا الأولاد والرجال وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها وساقوا الجميع مربوطين في الحبال‏.‏

ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد وكان يوم عاصف الريح فعم الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها آخرها يوم الجمعة‏.‏

وكان تيمور - لعنه الله - سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعد ما أقام على دمشق ثمانين يومًا وقد آحترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة‏.‏

وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالًا بالية ورسومًا خالية ولم يبق بها دابة تدب إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف فيهم من مات وفيهم من سيموت من الجوع‏.‏

وأما السلطان الملك الناصر فرج فإنه أقام بغزة ثلاثة أيام وتوجه إلى الديار المصرية بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية فقدم آقبغا إلى القاهرة في يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزة فآرتخت القاهرة وكادت عقول الناس تزهق وظن كل أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور وأن تيمور في أثره وأخذ كل أحد يبيع ما عنده ويستعد للهروب من مصر وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالًا‏.‏

فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور قدم السلطان إلى قلعة الجبل ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونواب البلاد الشامية ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية وقيل نحو الخمسمائة‏.‏

ثم في

 يوم السبت سابع جمادى الآخرة

المذكور أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية كانت موفرة في الديوان السلطاني بعد استعفائه من نيابة دمشق وعين السلطان لنيابة دمشق آقبغا الجمالي الأطروش ورسم للوالد أن يجلس رأس ميسرة‏.‏

ثم أذن السلطان للأمير يلبغا السالمي الأستادار أن يتحدث في جميع ما يتعلق بالمملكة وأن يجهز العسكر إلى دمشق لقتال تيمور فشرع يلبغا السالمي المذكور في تحصيل الأموال وفرض على سائر أراضي مصر فرائض من إقطاعات الأمراء وبلاد السلطان وأخباز الأجناد وبلاد الأوقاف عن عبرة كل ألف دينار خمسمائة درهم فضة وفرس‏.‏

ثم جبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر حتى إنه كان يقوم على الإنسان داره التي يسكنها ويؤخذ منه أجرتها وأخذ من الرزق وهي الأراضي التي يأخذ مغلها قوم على سبيل البر والصدقة عن كل فدان عشرة دراهم وكان يوم ذاك أجرة الفدان من ثلاثين درهمًا إلى ما دونها‏.‏

قلت‏:‏ أخذ نصف خراجها بدورة دارها وأخذ من الفدان القصب أو القلقاس أو النيلة من القنطار مائة درهم وهي نحو أربعة دنانير وجبى من البساتين عن كل فدان مائة درهم‏.‏

ثم استدعى أمناء الحكم والتجار وطلب منهم المال على سبيل القرض وصار يكبس الفنادق والحواصل في الليل فمن وجده حاضرًا فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجده فيه من النقد وهي الذهب والفضة والفلوس وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود وهي الذهب والفضة والفلوس وأخذ جميع ما وجد من حواصل الأوقاف ومع ذلك فإن الصيرفي يأخذ عن كل مائة درهم تستخرج مما تقدم ذكره ثلاثة دراهم ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم وإن كان نقيبًا أخذ عشرة دراهم - قاله الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله - قال‏:‏ فاشتد ما بالناس وكثر دعاء الناس على السالمي‏.‏

قلت‏:‏ وبالجملة فهم أحسن حالًا من أهل دمشق وإن أخذ منهم نصف مالهم وأيش يعمل السالمي مسكين‏!‏ وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور‏.‏

انتهى‏.‏

ثم خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظي وعلى الأمير يشبك الشعباني واستقرا مشيري الدولة ومدبري أمورها‏.‏

ثم في ثالث عشره خلع على القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي قاضي العسكر بآستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي وعلى القاضي جمال الدين عبد الله الأقفهسي بآستقراره قاضي قضاة المالكية بالديار المصرية عوضًا عن القاضي نور الدين علي بن الجلال بحكم وفاته‏.‏

وفيه قدم من الشام من المماليك المنقطعين ثلاثمائة مملوك بأسوأ حال‏:‏ من المشي والعري والجوع‏.‏

ثم في حادي عشرينه حضر إلى القاهرة قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي من دمشق بأسوأ حال وقدم أيضًا قاضي قضاة دمشق علاء الدين علي بن البقاء الشافعيوحضر كتاب تيمورلنك للسلطان على يد بعض المماليك السلطانية يتضمن طلب أطلمش أطلندي وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من الأمراء والنواب وغيرهم وقاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي ويرحل عن دمشق فطلب أطلمش من البرج بالقلعة وأطلق وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم وأنزل عند الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير وعين للسفر معه قطلوبغا العلائي والأمير محمد بن سنقر‏.‏

ثم خرج إلى تيمور الأمير بيسق الشيخي الأمير آخور رسولًا من السلطان بالإفراج عن أطلمش وأشياء أخر‏.‏

هذا ويلبغا السالمي يجد في تحصيل الأموال وأخذ في عرض أجناد الحلقة وألزم من كان منهم قادرًا على السفر بالخروج إلى الشام لقتال تيمور وألزم العاجز عن السفر بحضور بديل أو تحصيل نصف مغله في السنة وألزم أرباب الغلال المحضرة للبيع في المراكب بسواحل القاهرة أن يؤخذ منهم عن كل إردب درهم أو أن يؤخذ من كل مركب من المراكب التي تتنزه فيها الناس مائة درهم‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء أول شهر رجب أمر السالمي أن تضرب دنانير فيها ما زنة الدينار مائة مثقال ومثقال وفيها ما زنته تسعون مثقالًا ومثقال ثم ما دون ذلك إلى أن وصل منها دينار زنته ثم في ثالثه خلع السلطان على علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبي كم بآستقراره وزيرًا بديار مصر عوضًا عن فخر الدين ماجد بن غراب‏.‏

ثم ورد الخبر أن دمرداش المحمدي نائب حلب تخلص من تيمور وجمع جموعًا من التركمان وأخذ حلب وقلعتها من التمرية وقتل منهم جماعة كبيرة‏.‏

ثم خلع السلطان على شاهين الحلبي نائب مقدم المماليك باستقراره في تقدمة المماليك السلطانية عوضًا عن صواب المعروف بجنكل واستقر الطواشي فيروز من جرجي مقدم الرفرف نائب المقدم‏.‏

ثم حضر في سابع شهر رجب من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستة آلاف فارس وحضر من عربان الشرقية من عرب ابن بقر ألفان وخمسمائة فارس ومن العيساوية وبني وائل ألف وخمسمائة فارس فأنفق فيهم يلبغا السالمي الأموال ليتجهزوا لحرب تيمور‏.‏

ثم حضر في ثامنه قاصد الأمير نعير وذكر أنه جمع عربانًا كثيرة ونزل بهم على تدمر وأن تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيفة‏.‏